فضل مكة المكرمة على سائر البلاد

عباد الله: لقد أحب الله بقعة من الأرض، وحرمها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلما خلق السماوات والأرض، وكان تحريم هذه البقعة مكتوبًا عنده في اللوح المحفوظ؛ بقيت هذه البقعة ما شاء الله أن تبقى، من أول البشرية إلى أن ظهر إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فأمره الله -تعالى- أن يرحل من الشام إلى هذه البقعة، وأن يأخذ معه وليده إسماعيل، الذي جاءه على حين كبر من سنه، وأمه هاجر، ليضعهما في ذلك المكان، وكان مكانًا مقفرًا موحشًا: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [سورة إبراهيم:37]، ولا ضرع، ولا أنيس، ويولي ظهره وينصرف.
وفي ذلك ابتلاء عظيم لإبراهيم الخليل -عليه السلام- في ولده إسماعيل، يتركه وهو مشتاق إليه جداً، فقد جاءه بعد هذه السنوات الطويلة التي عاشها بلا ولد، ليتركه في مكان، ظاهر الأمر أنه هلكة، وليست هذه هي الابتلاءة الوحيدة للخليل في إسماعيل، فستكون هناك ابتلاءة أكبر؛ بذبحه، ولى الخليل ظهره لأحب الناس إليه، فقالت هاجر: إلى من تتركنا؟ فلم يجب، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، ومضى
فلما اختفى عن الأنظار، قعد يدعو ربه: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [سورة إبراهيم:37]، ثم دعا الله، بما أن هؤلاء في وحشة، ولا يزيل الوحشة إلا بشر، قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة إبراهيم:37]، وبما أنهم بغير طعام، قال: وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ [سورة إبراهيم:37]، وبما أنهم في أرض قفر يحتاجون إلى أمن، قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] قبل أن توجد مكة أصلاً، فلما وجدت بعد ذلك، قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] بالألف واللام، وكلا الدعائين في القرآن لإبراهيم الخليل. 

فكيف أجاب الله دعاءه؟ أنبع الماء، وصارت الطيور تحوم في السماء فوقه، وناس من جُرهم من العرب، يقولون: عهدنا بهذا الواد ليس به ماء؟! فيأتون ويفاجؤون بالماء: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30]، فيطلبون الإقامة عند أم إسماعيل، ليبدأ تأسيس أحب بلد إلى الله في العالم، التي قال نبينا ﷺ لها وهو يغادرها مضطرًا: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت[1]، الإجابة الأخرى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة إبراهيم:37]، قال الله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ [سورة البقرة:125] يثوبون إليه، يأتون ويرجعون، ويشتاقون، فيذهبون ويرجعون، ويشتاقون ويذهبون، وهكذا.. لا يطفش أحد من الكعبة، واستجاب الله الدعاء أيضاً بالإضافة إلى جعلها مثابة في كل قلب مسلم حنين وشوق إليها، قال الله له بعد ذلك لما أمره ببناء الكعبة: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ [سورة الحـج:27] وصار الناس يفدون إليها في كل سنة مرارًا وتكرارًا، يأتونها، فهذه الاستجابة العظيمة الأخرى، ولأجل قوله: وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ[سورة إبراهيم:37]. 
ماذا قال الله في الاستجابة؟ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا [سورة القصص:57]، ومن أنحاء العالم تأتي الثمار إلى مكة، فلا تكاد تجد نوعا من أنواع الثمار في العالم إلا ويؤتى إليها به، حتى فواكه الصيف والشتاء، وأنواع البضائع، وما يجلبه الحجاج، وغيرهم، ومنها ما يجلب إلى مكة عبر ميناء بلدكم هذا ومطاره، وتمت الاستجابة، بجلب الثمار إلى مكة من أنحاء العالم: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا [سورة القصص:57]، ولما قال الخليل: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] جعله الله بلدًا، فمن بعد جُرهم جاءت العرب، ثم جاءت العجم، وجاء المسلمون من كل مكان، واستُوطنت، وكبرت، واتسعت، كله استجابة لدعاء الخليل: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] فصار بلدًا عظيمًا، بل هو أم البلدان، كما قال الله: لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى [سورة الشورى:7] مركز العالم، ولما كانت الدعوة أيضاً: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] فقد تضمنت أن يكون بلدًا، وقد كان قفرًا، ليس فيه شيء، فصار بلدًا، ثم صار فيه أمن عظيم، فقال الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [سورة العنكبوت:67]،  أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا [سورة القصص:57]، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97]، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [سورة قريش:4]، قريش سكانه، وأقسم الله بأمانه، فقال: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [سورة التين:3].يا مهجةَ الأرضِ يا ريحانةَ العُمرُ
 حبيبتي أنت في حِليِّ وفي سفري
كم بِتُّ أرسمُ أحلامي مطرَّزةً
 إليك بالشوق والتذكارِ والسَّهرِ
 يا خير أمِّ رعَى الرحمنُ مولدَها
ومنيةَ العاشقينِ: السَّمعِ والبَصرِ
طهورُها الحُبُ والإيمانُ حلَّتُها
وعقدُها دررُ الآياتِ والسُّوَر
 أنا سليل العُلى والسادة الغرر
 أنا المناجيكِ في الظلماءِ والسَّحَرِ
أنا الذي أرضعتْني كُلُّ ثانيَةٍ قبَّلْتُ
 فيها يدَيْك الحُبَّ من صِغَري 
أنا الذي طَرِبَ العشاقُ من طَربي
وزاحموا الشُّهْبَ أفواجاً على أثري
 حبيبتي أنتِ أزكى حُرَّةٍ حمَلَتْ
 في راحتيها ضياءَ الشَّمْسِ والقمرِ 
يا ربةَ الخُلُقِ المحمودِ والسِّيَرِ
 يا عَالمَ النور يجلُو ظلمةَ البَشَرِ
 يا قلبَ أرضِ بلادِ اللهِ قاطبةً
 يطُوفُ حولَك طُهْرُ الحِجْرِ والحَجَرِ
 إنْ كان حُبُّ الفَتَى في عرفهِ قَدَراً 
فإنَّ حُبُّكِ في عُرْفِ الهُدى قدري
 لا شيءَ يملاُ أكوابي إذا فَرَغَتْ
 إلاَّ رضابُ المنى من ثغركِ العَطِر

يا مكة يا احب بلاد الله الى قلبى ، يا قبلة القلوب ، يا نور الافئدة ، يا امل المشتاقين ، يا دليل العارفين ، لنفحاتك يشتاق التائبين ، وبحرمك يلوذ الداعيين 
اللهم اجعل لنا بمكة قرارًا، وارزقنا رزقًا حلالاً، وجملنا بالأدب يا أرحم الراحمين .
قال ابن القيم -رحمه الله- معلقاً على هذه الآية: “ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: (وطهر بيتي) لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفًا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطرا أبدًا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:
أطوف به والنفس بعد مشوقة *** إليه وهل بعد الطواف تداني؟!
وألثم منه الركن أطلب برد ما *** بقلبي من شوق ومن هيمان
فو الله ما أزداد إلا صبابة *** ولا القلب إلا كثرة الخفقان
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى *** ويا منيتي من دون كل أمان
أبت غلبات الشوق إلا تقرباً *** إليك فما لي بالبعاد يدان
وما كان صدّي عنك صد ملالة *** ولي شاهد من مقلتي ولساني
دعوت اصطباري عند بعدك والبكا *** فلبّى البكا والصبر عنك عصاني
وهذا مُحِبّ قاده الشوق والهوى *** بغير زمام قائد وعنان
أتاك على بعد المزار ولو ونت *** مطيته جاءت به القدمان


باب العمرة




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رؤيا ربيعة بن نصر ملك اليمن وتفسير شق وسطيح لها

تفسير رؤية الاسد والذئاب والذئيب الابيض والاسود فى المنام

اشراط الساعة الصغرى